إنّ ألف باء الأبجدية الإنسانية تُعلّم المرء منذ طفولته أن الخير خير بيّن، و كذلك الشرّ شرّ واضح، و إن الخير لا يتلبّس بالشرّ، و كذلك الشرّ يبقى شرًّا و لو ظهر بمظهر الخير، و أن الغايات العظيمة تحتاج لوسائل عظيمة لتحقيقها، و لا يبرر إدراك الغاية -مهما كانت صعوبتها- استخدام وسيلة تحطّ من قدرها. و إن الحملة التي أطلقها شابان سعوديان تحت شعار: "خلوها تعنس..دعوة عزابي"، و إن كانت تحمل في طياتها أفكاراً خيرة في المطالبة بتقليل تكاليف الزواج و تيسير سبله و تقليل المهور، إلاّ أنهما لم يحسنا اختيار شعارها الذي تعدّى مضمونه مجرد العنوان الذين يدين المرأة، و يضع من منزلتها، بل و يجعل العنوسة التي أصبحت ظاهرة منتشرة في مجتمعاتنا العربية عقاباً للمرأة، و كأنها السبب فيها أو في الوصول إليها، و ليس مجموعة عوامل اجتماعية و اقتصادية مرتبطة بتقاليد و عادات بالية في المغالاة و المفاخرة... كان الأولى بالحملة و التي تحمل أفكاراً خيّرة أن ترتقي بالخطاب الاجتماعي فيما يخص موضوع الزواج و تفاصيله و ظاهرة العنوسة و مشاكلها، لا أن تختار شعاراً مستفزًّا، و كأنه يعنف المرأة و كل من يساهم في قرار زواجها، بل و يوقع على المرأة العقوبة إذا لم تناسب خياراتها ذلك "العزابي" الذي يبقى "عزّابياً" و لو طال به العمر دون زواج، بما تحمله الكلمة من الفرص المتاحة و المستقبل المفتوح الأبواب، و لو أصبح في الستين، بينما المرأة محدودة الفرص يلقيها المجتمع في جُبّ العنوسة على أبواب الثلاثين، غول و موت محتوم، على المرأة و من حولها الهروب منه بتخفيض ما يمكن تخفيضه و تقليل ما يمكن تقليله، ليس قناعة بأن تقليل المهور بركة على الأسرة الصغيرة التي ستتشكل و على المجتمع بأكمله وحسب، و ليس اقتناعاً بأن المتاجرة في الرجال و النساء يجب أن تكون بالأخلاق و الأفكار و الدين، و لكن أيضاً هروباً من العنوسة، و الخوف ليس خطوة إلى الأمام، و لا يساهم بتغيير القناعات في المجتمع؛ فتأثيره وقتي، أما القناعات الراسخة فتُبنى على الإيمان الراسخ لا على الخوف. كان الأولى بمطلِقَي الحملة أن يضعا نفسيهما مكان المرأة، أو يتصورا محارمَهما، أخواتهما و بناتهما في نفس الوضع، و كيف كانا ليخاطبوهن. لقد جاء شاب إلى رسول الله -صلى الله عليه و سلم- يستأذنه في الزنا، فقال له المصطفى: أترضاه لأمك؟ فأجاب الشاب: لا و الله يا رسول الله، ما أرضاه لأمي، فرد عليه الرسول عليه الصلاة و السلام: و كذلك الناس لا يرضونه لأمهاتهم، ثم سأله: أترضاه لأختك أو ابنتك؟ فأجاب الشاب بالنفي كذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: و كذلك الناس لا يرضونه لأخواتهم أو بناتهم، و هكذا وضع الرسول -صلى الله عليه و سلم- الشاب في نفس الرؤية و الوضعية حتى يقدر مشاعر الآخرين، و يرى نتائج عمله، فكان أن أقلع الشاب عن فكرته. إن التغيير الاجتماعي الجاد و الدائم الأثر فيما يخص الزواج و العنوسة لا يُبنى على تقليعات و موضات تستخدم أسلوب الصدمة و الاستفزاز في الوصول للجماهير، بل بالتربية المستمرة و التوجيه اللائق الذي يخاطب كافة أطراف المعادلة على قدرهم؛ فلأولياء الأمور خطابهم، و للمرأة خطابها. خطاب يوجد حالة من الوعي الجمعي بمشاكل العزوف عن الزواج، و يضرب القدوات في مجال تجاوزها بنجاح. إن اختيار هذا الشعار المستفز و الخارج عن اللياقة فيما يخص موضوع الزواج الذي هو ميدان المودة و الرحمة و حسن اختيار الألفاظ بناء على نجاح حملة (خلّوها تصدي) للعزوف عن شراء السيارات لارتفاع ثمنها، هو مقاربة غير صحيحة و مماثلة غير منطبقة؛ فالإنسان غير الحديد، و المشاعر و الأفكار لا تُقيّم بالمال، كما أن صدأ القلب غير صدأ الحديد، و هل المرأة سلعة حتى ينطبق عليها ما ينطبق على السيارات؟! و هل عدنا من حيث لا ندري إلى إحياء تقاليد الجاهلية عندما كانت المرأة تُعامل كمتاع يُباع و يُشترى و يُورث؟ إن تعامل الرجال مع النساء بهذه الحدية المبنية على إما أن....أو فلتبقي عانساً، و بنفس القاضي الذي يملك العقوبة، أو يملك أن يسبغ على المرأة نعمة الزواج تجعل العنوسة حلاً أفضل و عقوبة أرحم من الارتباط بهكذا رجال يتعاملون مع المرأة بنفسية الجلاد..!! ولا نظن أن ابن عباس -رضي الله عنه- حينما قال: "و إني لأحب أن أتزيّن لامرأتي كما تتزيّن لي" كان يعني بذلك زينة الجسد فقط، بل زينة القول و المنطق أيضاً، و إننا -و نحن أبناء حضارة كانت معجزتها الأولى البلاغة- لنعجب كيف تضيق بنا اللغة و خيارات المعاني حتى لا نجد شعاراً أبلغ عبارة، و أبقى أثراً من "خلّوها تعنّس" لتحقيق هدف سامٍ و غاية نبيلة!