لم نكن نتخيل ونحن في طريقنا إلى لجنة رعاية السجناء والمفرج عنهم وأسرهم في جدة المعروفة باسم "تراحم" أن نستمع إلى حكايات أقل ما توصف به أنها مأساوية، وتبدو للوهلة الأولى أنها من بنات أفكار روائي متمرس، ذي خيال واسع وخصب. وإذا كانوا يقولون "ليس من رأى كمن سمع"، فإن ما سمعناه وما رأيناه بأعيننا، من نساء يبكين وأطفال مشردين، يفوق مرات ما سوف نحاول وصفه في هذا التحقيق، الذي خرجت به "سبق" من جولتها داخل "تراحم جدة".. وإليكم التفاصيل: طريدة الشوارع سردت أم محمد معاناتها لـ"سبق" قائلة: أنا أم لسبعة أطفال، طُلقت منذ أكثر من 18 عاماً، وتزوَّج طليقي بأخرى، طلبت منه أن أعيش خادمة له ولزوجته مقابل أن يصرف على أولاده، بيد أنه رفض كل محاولاتي؛ بحجة أنه لا يستطيع أن يصرف على بيتين، وبالفعل تركنا وذهب لزوجته الجديدة، وخرجت للعمل في المنازل حتى أستطيع أن أحصل على قوت يومي وأربِّي أبنائي، ولكن عادة تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن، أصيبت ابنتي بالسرطان. سكتت أم محمد، وبعد برهة استكملت حديثها وقالت "تراكمت علينا الديون، ولا أفكر في أي شيء سوى أن أخفف عن ابنتي لحظات ألمها"، وبعد فترة من العذاب والتعب طلب ابني أن أسمح له أن يخرج من التعليم وهو بالمرحلة المتوسطة، للبحث عن عمل، وبالفعل خرج للعمل ساعياً عند أحد رجال الأعمال، وعندما علم بقصته أعطى له راتب 1500 ريال، وحمدت ربي على الكرم الكبير الذي منحه إيانا. وبألم شديد تضيف الأم "لكن رفقاء السوء استكثروا علينا الفرحة، وجرّوا ابني إلى المخدرات حتى قُبض عليه ولا أعلم عنه شيئاً، إلا أنه سوف يُرحّل إلى اليمن حسب القانون، رغم أننا لا نعرف أحداً في اليمن، ولم نذهب إليها قط. مسكت بيدي وقالت: تراكمت علينا الديون وصاحب العقار يطردنا، فحمتنا لجنة رعاية أسر السجناء بدفع مبلغ له، وبعد أن ينتهي المبلغ يعاود طردنا إلى الشارع، هذا هو حالنا، ولا أدري ماذا أفعل بابنتي المسكينة، ومن سيتحمل مصاريف علاجها، بعد أن تحولتُ إلى "طريدة الشوارع" مع أبنائي. أب سفاح وهذه قصة موجعة من داخل اللجنة، ترويها لنا أم حزينة، هربت بابنتها خوفاً عليها من القتل، وقالت: أنا امرأة مطلقة ولي ثلاثة أبناء يعيشون مع أبيهم، علمت أن ابنتي الكبرى (18 عاماً) حملت سفاحاً من أبيها، فذهبت إلى أسرة طليقي لأعلمهم بالجرم الذي فعله في حق فلذة كبده، بيد أنهم أنكروا ذلك، واتهموا ابنتي بأنها أقامت علاقة مع شاب ونتج عنها الحمل، ورفعت دعوى في المحكمة واعترف الأب بفعلته الشنعاء، وقبض عليه بيد أن المعاملة لم يتم البت فيها حتى الآن. وضعت ابنتي جنينها الذي لم نره، حيث أخذ منها مباشرة باعتباره طفلاً غير شرعي، وهي الآن تعاني من المرض النفسي، وتعيش حالة من الخوف والاكتئاب أفقدتها القدرة على الكلام. وأضافت: تعاونت مع لجنة رعاية السجناء، وتم تحويل ابنتي إلى أطباء نفسيين، وهربت بها إلى جدة حتى أحميها من أهل أبيها، الذين توعدوا بقتلها وأهدروا دمها. وبكت الأم قائلة: لا أدري أي ذنب اقترفَته المسكينة حتى تعاني كل هذا الظلم وهي مازالت في ريعان شبابها؟ وطالبت بتوقيع أقصى العقوبة على أب استحل الحرمات. قاتل نجليه ونتواصل مع الحالات داخل مبنى "تراحم"، وتحدثنا فتاة صغيرة في مقتبل العمر، وجدناها تبكي وتبحث عن مكان للهرب فيه من والدها، وعلمنا منها أن والدها مسجون، وعندما سألناها عن سبب سجنه، قالت: قتل أخي الصغير وقبض عليه ودخل السجن، ثم خرج فقتل أخي الأكبر، وهو الآن يقضي العقوبة في السجن. سألناها عن سبب ذعرها ورعشتها المستمرة فأجابت: والدي سوف يخرج في رمضان والدور علي ليقتلني، ولا أريد أن أموت، ولذا أحاول الهرب والفرار منه ولكن لا أدري إلى أين أذهب؟. غدر الأيام وسردت زوجة أحد السجناء لـ"سبق" معاناتها في غياب زوجها قائلة "زوجي سُجن في قضية مخدرات، تركني وابنتي نواجه مصيرنا المحتوم، بعت أثاث منزلي لأنفق على ابنتي، طردنا صاحب البيت، شرعت ألملم بقايا الأثاث للذهاب إلى بيت أهلي، لكنهم لم يساعدوني، بل تخلوا عني وتركوني فريسة لغدر الأيام، أجهضت وأنا أغادر منزلي. تصمت عن الحديث وتسبقها دموعها وتقول: تجرَّعت مرارة الذل والإهانة في بيت أهلي، فنظرات إخواني سهام جارحة لكرامتي، أمي تعطيني من راتب الضمان الاجتماعي، أحياناً كان يشفق عليّ بعض رجال الخير، فيعطونني بعض النقود لشراء ضروريات الحياة، بحثت عن عمل فلم أجد، انتظر على استحياء ما تجود به شقيقتي، نظرات الأهل والأقارب سهام تقتلني، هكذا دارت بي الأيام. وفي لحظة ضعف، استبد بي الشيطان فقررت إنهاء حياتي، تناولت 20 قرصاً منوماً، ولكن القدر كان رحيماً بي وتم إنقاذي، وأصبت باكتئاب ودخلت مستشفى الصحة النفسية، أتلقى مساعدات عينية من اللجنة، وتم الاتفاق على تدريبي في أحد معاهد الحاسب الآلي، لكن ما يؤلمني أنني بلا مورد، أنتظر الإفراج عن زوجي بعد ثلاثة أشهر، ولا أعلم ما تخبئه لي الأيام. ثلاث فئات من جهته أوضح المدير التنفيذي لـ"تراحم" الدكتور سهيل بن هاشم صوان أن عنوان اللجنة يُفهم منه أن اللجنة تهتم بثلاث فئات، أولها السجين وثانيها المفرج عنه والثالثة أسرة السجين. وقال إن الاهتمام بالسجين يبدأ من لحظة وصول المعاملة إلى المحكمة، حيث توجد ثلاثة مكاتب للجنة في المحكمة العامة والمحكمة الجزئية والسجن؛ لرصد المعاملات التي تدخل المحكمة ومتابعتها. وأضاف "هنالك ترتيبات عديدة تتعلق بتدريب السجين، حيث تقوم بعض الشركات بفتح مصانع داخل السجن للتدريب، وعند خروجهم يعملون في المصانع نفسها، مشيراً إلى فتح مخبز، مصنع حلويات، مصنع للتحف داخل السجن، ورش تدريب لإصلاح المكيفات والسيارات والكهرباء والكمبيوتر، كما تم فتح بعض المشاريع للنساء من خلال جمعية "الشقائق"، وهي مرسم ومشغل للخياطة ومحلات للزهور. نظرة المجتمع ورأى صوان أن نظرة المجتمع تعد أكبر مشكلة تواجه أسر السجناء وذويهم، فالسجين أو السجينة بات موصوماً بسابقة، اعتُبر بعدها من المنبوذين في المجتمع، موضحاً أن الجمعية تقوم بدور مهم في إقناع الجهات المعنية لتقبل السجناء للعمل داخل معاهد التدريب. وأعرب عن أسفه من ردود الأفعال السيئة تجاه السجناء من قبل بعض الشركات ورجال الأعمال الذين يرفضون مجرد فكرة وجود هذه الفئة. وأشار إلى أن دور الجمعية الرئيس يتجه إلى أسر السجناء، لا سيما الطبقات غير المتعلمة، فغياب عائل الأسرة يدفعنا جميعاً في اللجنة لرعاية هؤلاء حتى لا يقعوا ضحية لأية انحرافات. وطالب صوان بضرورة تغيير نظرة المجتمع للسجين، وقال "السجين يلقى عقابه، ولابد أن نعطيه فرصة أخرى للانغماس في المجتمع حتى لا يعود للجريمة". ووجه رسالة إلى السجين قائلاً "هذا ما فعلت يداك، ولابد أن تعلم أنه مازالت هناك فرصة أخرى للعيش بشكل محترم، والفرصة تعتمد على الشخص، وإذا بحث عنها فسوف يجدها"، بينما طالب أسرة السجين "أن تتقبل الحياة بوضعها الجديد"، مؤكداً أن العمل هو الطريق الوحيد للخروج من المأزق، حتى تكون هناك أسر منتجة تبحث عن العمل الشريف ولا تستسلم لظروف الحياة. 800 سجينة من جهتها كشفت رئيسة القسم النسائي في "تراحم" رانيا محمد فتحي الغفير، عن وجود ما يقرب من 800 سجينة، بينهن نحو 19 سعودية، مشيرة إلى أن أغلب المشاكل المتعلقة بهن تكمن في رفض الأهل التعامل مع السجينة بعد الإفراج عنها، ورفض استلامها وتركها داخل السجن، وهنا يكون دورنا في التقريب بينهم من خلال مركز "المودة" المتعاون معنا، للتواصل مع الأسرة وإقناعهم، بيد أن هناك العديد من الأسر ترفض استلام بناتها، ويتم وضعهن داخل بيت الشؤون الاجتماعية. وحول عمل اللجنة مع أسر السجناء قالت الغفير: يتم توفير الاحتياجات الأساسية للحياة لكل أسرة من مبلغ مالي يغطي تقريباً ثلاثة أشهر من الإيجار السنوي للمنزل، وفاتورة كهرباء والسلة الغذائية، وأشارت إلى دعم الجمعية للأسر المنتجة من خلال عرض منتجاتهم في "البازارات" التي تشارك فيها الجمعية، ويعود عائد البيع لصالح أسر السجناء، موضحة أن الجمعية تعتمد أساساً على الجهود الذاتية ورجال الخير. الدعم والتأهيل وأفادت المستشارة القانونية في اللجنة الوطنية لرعاية أسر السجناء بيان زهراني أنها تتولى تقديم الاستشارات القانونية لأسر السجناء، والزيارات الدورية للسجن، وتقديم الدعم القانوني للسجينات الموقوفات على ذمة التحقيق. وقالت إن المفرج عنها تعاني عدة مشكلات قانونية مثل: تصحيح وضعها النظامي، فهي عليها "سابقة"، ومن خلال متابعة الإجراءات تُشطب هذه السابقة من سجلها إذا كانت تستحق ذلك وفقاً للنظام، فضلاً عن متابعة الأحوال المدنية، فيما يختص بالهوية أو الإقامة إذا عُطلت. وعبّرت زهراني عن أسفها لمصير المفرج عنهن من السعوديات اللاتي يرفض المحرم استلامهن مثل: الأب، الأخ، الزوج، ففي هذه الحالة تظل في السجن لأجل غير مسمى، وقد تتضاعف لتصل إلى المؤبد، مشيرة إلى تدخل لجان الإصلاح للتوفيق بين الأسر والمفرج عنهن للعودة إلى حضن الأهل. وطالبت بإيجاد دور إيواء انتقالية، يتم من خلالها تأهيل المفرج عنهن نفسياً وتعليمياً ومهنياً، كي تتحول من مذنبة في نظر المجتمع إلى مواطنة منتجة وفعّالة، حتى تتحسن صورتها أمام نفسها، وينظر الأهل إليها نظرة إيجابية. وأضافت الباحثة الاجتماعية عبير الغامدي أن هناك بعض الأسر لا تعرف الخدمات الحقوقية الخاصة، وهنا يكمن دورنا في التعريف بالحقوق المتعلقة بأسرة السجين، كما أن طبيعة عملنا تجعلنا نلتقي بأشخاص يعانون من الاضطهاد بعض الشيء، ولذا بات من المهم الوقوف إلى جوارهن حتى لا يعرضن أنفسهن وأبنائهن للتحطيم النفسي والمعنوي. ودعت إلى تفعيل دور الشركات الخاصة لتدريب السجناء والسجينات داخل وخارج السجن، حتى يشاركن في المجتمع مرة ثانية.